سورة المجادلة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)} [المجادلة: 58/ 1- 4].
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتقول: يا رسول اللّه، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها...} وهو أوس بن الصامت.
لقد قبل اللّه شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النّبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها، قائلا لها: «أنت علي كظهر أمّي» أي في الحرمة، وتشتكي إلى اللّه ما أغمها وأحزنها، واللّه يسمع ما تتراجعان به من الكلام، إن اللّه يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر على الوجه الأتم الأكمل، ومن ذلك محاورة هذه المرأة معك نبي اللّه. والمحاورة: مراجعة القول ومعاطاته. والشكوى: الإخبار عن مكروه أصابك.
ثم وبّخ اللّه المقدمين على الظّهار، فالذين يشبّهون أزواجهم بأمّهاتهم، بقولهم لهنّ على لسان الواحد منهم: أنت علي كظهر أمي ونحوه، أي في التحريم، ليست نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، لأن الأمهات في الحقيقة هنّ اللواتي ولدنهم فقط.
وإنهم ليقولون قولا ينكره الشّرع، ويقبحه، وهو كذب محض وبهتان، وإن اللّه تعالى واسع المغفرة والعفو لمن تاب وأناب، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر. فوصف الزوجة وتشبيهها بالأم خبر مزوّر مكذوب، لا يغيّر الحقيقة، وهذا يدلّ على أن الظّهار حرام موجب للإثم والمعصية. وقد كان الظّهار طلاقا في الجاهلية، يوجب التحريم المؤبّد.
وكفّارة الظّهار لمن يريد نقضه والعودة لحالته الطبيعية مع زوجته، من إرادة الاستمتاع: هو عتق رقبة كاملة لا بعضها، وهي هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان، وبه أخذ الحنفية والظاهرية. وقيّد بقية العلماء الرقبة بوصف الإيمان، كما هو المقرّر في كفّارة القتل الخطأ حيث قال اللّه تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النّساء: 4/ 92]، من طريق الإلحاق أو القياس، والمسمى في أصول الفقه: حمل المطلق على المقيد، بسبب الاتّحاد في السبب بين القتل والظّهار، فيتّحدان في الحكم.
وذلك من قبل التماس، أي العودة إلى الجماع، واللّه تام العلم والخبرة بما تعملون. وذلكم، أي الإلزام بالكفارة عظة لكم لتنتهوا عن الظّهار. وهذا تحذير من التقصير في الكفارة. والمسيس في رأي الحسن البصري والثوري وجماعة: هو الوطء، ويجوز غيره من أنواع الاستمتاع. واتّجه الجمهور إلى تعميم الحكم على منع الوطء والمباشرة بأنواعها من تقبيل ومضاجعة واستمتاع بأعلى المرأة كالحيض، فلا يجوز للمظاهر أن يطأ ولا يقبّل ولا يلمس بيده ولا يفعل شيئا من هذا النوع إلا بعد الكفارة.
فمن لم يجد الرقبة في ملكه أو ملك غيره، بأن لم توجد كما في عصرنا، أو لم يجد ثمنها، فيجب عليه صيام شهرين متتابعين متواليين من غير تفريق لا يفطر فيهما، إما بصيام ستين يوما تباعا، أو بأن يصومهما بالأهلّة، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال، فإن أفطر يوما أو أكثر بغير عذر، أو جامع المرأة، استأنف من جديد صيام الشهرين في رأي الجمهور، وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يستأنف إذا وطأ ليلا، لأنه ليس محلّا للصوم. ولا ينقطع التتابع عند المالكية إذا أفسد الصوم لعذر غالب كالمرض والنسيان ونحوه، وينقطع عند الحنفية والشافعي في المذهب الجديد. فمن لم يستطع الصوم لشيخوخة أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة، فعليه إطعام ستين مسكينا، لكل مسكين مدّان من القمح (أو نصف صاع من القمح) عند الحنفية، وصاع من تمر أو شعير كالفطرة، ومدّ وثلثان من القمح إن اقتاتوه عند المالكية، ومدّ من قمح أو نصف صاع من تمر أو شعير عند الشافعية والحنابلة. والطعام: هو غالب قوت البلد. ومن العلماء من يرى إطعام مدّ بمدّ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
ذلك الترخيص والتسهيل من النقل من تحرير رقبة إلى الصوم والإطعام، وتشريع الكفارة بسبب الظّهار، لتصدقوا بشرع اللّه وأمره، وتلك حدود اللّه، فالتزموها وقفوا عندها، وللكافرين المتجاوزين حدود الشرع عذاب مؤلم شديد على كفرهم، وهو نار جهنم، وعذاب في الدنيا، وهذا وعيد وتهديد.
وعيد المعادين لله ورسوله:
امتدح اللّه تعالى بعد آيات الظّهار المؤمنين الواقفين عند حدود اللّه، ثم أتبعه بوعيد المعادين لأمر اللّه ورسوله بالإهانة في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة، إذ لا تخفى على اللّه خافية منهم، أو حال من أحوالهم في السّر والعلن، وسوف ينبئهم اللّه بأفعالهم يوم القيامة والحساب، ويجازيهم على ما قدّموا من أعمال. فنزلت هذه الآيات في شأنهم، وهم المنافقون وقوم من اليهود كانوا في المدينة يحتكّون بالنّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وينتظرون به وبالمؤمنين الشّر، ويدبّرون المؤامرات، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك، نزلت هذه الآيات بهم إلى آخر النجوى:


{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)} [المجادلة: 58/ 5- 7].
إن الذين يعادون، ويخالفون أوامر اللّه والرسول، ويعاندون الأحكام والشرع، أذلّوا وأهينوا، كما أذلّ المنافقون السابقون من قبلهم من كفار الأمم الغابرة، بسبب معاداة شرع اللّه تعالى، وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم، ووعيد لكل من يهجر شريعة اللّه، وقد أنزلنا في هذا القرآن للناس آيات واضحات، دالّة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، لا يخالفها إلا كل كافر معاند، وللجاحدين بتلك الآيات، المستكبرين عن اتّباع شرع اللّه والانقياد له: عذاب يهين صاحبه ويذلّه، بسبب كفره واستكباره، وذلك العذاب هزيمة وهوان في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة.
والمحادّة: أن يكون كل واحد من المتعاديين في حد أو جهة، والآخر في حدّ أو جهة مغايرة أو مخالفة. وكبت الرجل: إذا بقي حزنان يبصر ما يكره، ولا يقدر على دفعه.
اذكر أيها الرسول ذلك اليوم الذي يأتي فيه العذاب، وهو يوم القيامة، تعظيما له، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحشرهم اللّه جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب، مجتمعين في حال واحدة، فيخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا، لإقامة الحجة عليهم، فقد حفظ اللّه وضبط كل ما صنعوا من خير أو شرّ، واللّه سبحانه مطّلع على كل شيء، ولا يخفى عليه شيء. وهذا وعيد وإنذار.
ألم تعلم أيها النّبي وكل مخاطب أن علم اللّه واسع شامل، محيط بكل شيء في الأرض والسماء، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، فما يوجد من تناجي أو تسارر ثلاثة أشخاص إلا كان اللّه رابعهم، مطّلع عليهم، يسمع كلامهم وسرّهم ونجواهم، ولا خمسة أفراد إلا كان اللّه سادسهم بالعلم والقدرة والإحاطة، ولا أكثر من هذا العدد مهما بلغ ولو ملايين إلا كان اللّه معهم، عليم بهم وبأقوالهم وأسرارهم، في أي مكان وأي زمان، ثم يخبرهم اللّه بكل ما عملوا يوم القيامة، إن اللّه واسع العلم بكل شيء، وسع علمه وسمعه وبصره السماوات والأرض وما بينهما.
وكلمة {نَجْوى} إما أن يكون المراد به جمعا من الناس، أي أولو نجوى، ويكون قوله تعالى بعدها: {ثَلاثَةٍ} على هذا بدلا من {نَجْوى} أو صفة، أو يكون (النجوى) مصدرا محضا وهو التناجي، فيقدر قبل (أدنى) فعل، تقديره: ولا يكون أدنى.
والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الإثنين والأربعة: هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها، فإنها نزلت في قوم منافقين، اجتمعوا على التّناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين. وإما أن طبيعة المشاورة تتطلب وجود عدد وتر، فيكون الاثنان أو الأربعة وغيرهما من الأرقام الزوجية يمثلان التنازع، والثالث والخامس كالمتوسط الحكم بينهم، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية.
وقد أجمع المفسّرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ولا شك في إرادة ذلك.
وقد جمعت هذه الآية بين جميع وسائل العلم، فإنه مع علم اللّه تعالى وسمعه وبصره بكل شيء هو سبحانه وتعالى مطّلع على جميع أمور خلقه، ومحيط علمه بكل كائن صغير أو كبير، كما جاء في ختام الآية: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وفي هذا إعلام لمن يتناجون بالسوء والمكر، على سبيل التوبيخ لهم والتبكيت وإلزام الحجة.
قال الإمام أحمد: افتتح اللّه الآية بالعلم، واختتمها بالعلم. ومن المعلوم أن العالم بالأسرار والقدير على اتخاذ القرار يفعل ما يشاء بالناس، مما يقتضي الحذر والالتزام بمرضاة العالم.
آداب المناجاة:
تابع اللّه تعالى في كلامه عن النّجوى أو المسارّة بين الأفراد بيان حال الذين نهوا عن النّجوى وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه، وتحيتهم بالسوء للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم قائلين له: السّام عليك، أي الموت، مما أوجب تهديدهم بدخول جهنم.
وناسب ذلك التعريف بآداب المناجاة الاجتماعية، من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، والإلزام بالتناجي بالبر والتقوى، أي بالخير، وفعل كل ما يقي الإنسان عذاب النار، من فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات، فقال اللّه تعالى:


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)} [المجادلة: 58/ 8- 10].
الآية الأولى نزلت في قوم من اليهود، نهاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن التّناجي بحضرة المؤمنين، وإظهار ما فيه ريبة من ذلك، فلم ينتهوا، فنزلت هذه الآية.
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: كان بين النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظنّ المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي صلّى اللّه عليه وسلّم عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل اللّه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى} الآية.
وقال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين.
والمعنى: ألم تعلم وتنظر إلى الذين نهيتهم عن التّناجي والمسارّة بالسوء، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه، وهم اليهود والمنافقون، كما ذكر في سبب النزول. ويتسارّون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب، واعتداء وظلم للآخرين، وعدوان على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم.
وإذا أتى إليك بعض اليهود حيّوك بتحية سوء، لم يحيّك بها اللّه مطلقا، فيقولون: السّام عليكم يا محمد، والسّام: الموت، يريدون بذلك السّلام في الظاهر، وإنما يعنون الموت في الباطن، فيجيبهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقوله: وعليكم، فسمعتهم عائشة رضي اللّه عنها يوما، فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، فقالت: بل عليكم السّام واللعنة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: مهلا يا عائشة، إن اللّه يكره الفحش والتّفحش، قالت: أما سمعت ما قالوا؟ قال: أما سمعت ما قلت لهم؟ إني قلت: وعليكم.
ثم كشف اللّه تعالى خبث طويتهم والحجة التي إليها يستريحون، وذلك أنهم كانوا يقولون، أي المنافقون وبعض اليهود الذين تخلّقوا بخلقهم،: نحن الآن نلقى محمدا بهذه الأمور التي تسوؤه ولا يصيبنان سوء، ولا يعاقبنا اللّه تعالى بذلك، ولو كان نبيّا لهلكنا بهذه الأقوال، وجهلوا أن أمرهم مؤخر إلى عذاب جهنم، فأخبر اللّه تعالى بذلك، وأنها كافيتهم، أي إنهم قالوا ذلك المقال، فجاوبهم اللّه: بأن جهنم تكفيهم، يدخلونها، فبئس المرجع والمآل: وهو جهنم.
ثم ذكر اللّه تعالى آداب المناجاة، حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين، فقال: { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ} أي يا أيها الذين صدّقوا بالله ورسوله- والإيمان يقتضي امتثال أمر اللّه، والبعد عما ينافي العقيدة- إذا تحدّثتم سرّا فيما بينكم، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين، من التّناجي بالمعصية والذنب، والاعتداء على الآخرين وظلمهم، وعصيان النبي صلّى اللّه عليه وسلّم ومخالفته.
وتحدّثوا بما هو طاعة وترك معصية، وبما فيه خير واتّقاء اللّه فيما تفعلون وتتركون، فإنكم إليه تجمعون يوم القيامة للحساب، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم، ويحاسبكم عليها. وهذه وصية للمؤمنين بألا يكون منهم تناج في مكروه، وذلك عامّ جميع الناس إلى يوم القيامة.
ثم ذكر اللّه تعالى أن التّناجي والشيطان لا يضرّ أحدا إلا بإذن اللّه، أي إنما التّناجي بالسوء من تزيين الشيطان ووسوسته، للإساءة للمؤمنين وإيقاعهم في الحزن، بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها، وليس الشيطان أو التّناجي الذي هو منه بتحريضه، بضارّ أحدا من المؤمنين إلا بإذن اللّه، أي بأمره وقدره، ثم أمر اللّه تعالى المؤمنين بالتوكّل على اللّه ربّهم، وتفويض الأمر إليه في جميع شؤونهم، والاستعاذة بالله من الشيطان، وترك المبالاة بما يزيّنه من النجوى. لذا قال الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فيما أخرجه البخاري ومسلم وابن مردويه عن ابن مسعود رضي اللّه عنه: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه».
أدب المجالسة والتصدّق قبل مناجاة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم:
منع الإسلام من التّناجي سرّا أو بالإثم والعدوان، حفاظا على الثقة والبعد عن الريبة والشك، وتبييت الغدر، والطعن، وأمر في المجالس بالتوسع، للتعاون والمحبة والودّ واحترام الآخرين. وكل ذلك لإشعار المسلمين أنهم في الواقع إخوة أمناء وأحبّاء، وصف واحد أمام الأعداء، حديثهم واضح لا غش فيه، ومجلسهم قائم على المساواة وتبادل الاحترام، وكان في صدر الإسلام الأمر بالتصدّق قبل مكالمة النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم توقيرا له وتعظيما، ثم رفع ذلك، دفعا للحرج وتيسيرا على جميع المؤمنين.
وهذا مقرر في الآيات الآتية:

1 | 2